فصل: الطرف الرابع في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس في الديار المصرية بعد مصير الخلافة إليها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الجملة الثالثة في الكتب الخاصة مما يصدر عن الخلفاء:

وهي على ضربين:
الضرب الأول: ما يكتب عن الخلفاء إلى وزرائهم:
قال في صناعة الكتاب: ويكاتب الإمام الوزير أو من حل محله أمتعني الله بك وبدوام النعمة عندي بك، وبقاء الموهبة لي فيك وما جرى هذا المجرى.
وذكر في ذخيرة الكتاب: أن الدعاء للوزير أمتعنا اللهبك وبدوام النعمة لنا فيك وتجديد الموهبة عندنا بك. ثم قال: ودعا المكتفي بالله للقاسم بن عبد الله لما أمر بتكنيته، وكان الكتاب بخطه أمتعني الله بك وبالنعمة فيك ووقع المستنصر إلى وزيره أحمد بن الخصيب مد الله في عمرك. وهو قريب مما ذكره مما ذكره في صناعة الكتاب في ذلك كله، والذي رأيته في مكاتبات العلاء بن موصلايا عن القائم بأمر الله التصدير بما فيه تعظيم الوزير وتقريظه، من غير ضابط في الابتداء، والدعاء في أثناء ذلك بالحياطة ثم التوصل إلى المقصد.
وهذه نسخة كتاب كتب به العلاء بن موصلايا عن القائم إلى وزيره: لما خص الله تعالى الدولة القاهرة العباسية بامتداد الرواق في العز واتساع النطاق، وأجرى لها الأقدار بما يجمع شمل الحق ويمنع من نفاق النفاق، وأفرد أيامها بالبهاء المنير الأعلام، والانتهاء في قوة الأمر إلى ما يتأدى في طاعتها بين اليقظات والأحلام، وجعل الزمان واقفاً عند حدها في النقض والإبرام، ومتصرفاً على حكمها في كل ما حأول من حالٍ ورام، ومكن لها في الأرض حتى أذلت نواصي الأعداء قهراً وقسراً، وحسرت عن قناع القدرة على رد الطامعين في إدراك مداها ظلعاً حسرى، فإن الله تعالى لم يخلها كل وقتٍ من قائلٍ في نصرتها فاعل، وقائم بإقامة حشمتها من كل حافٍ من الأنام وناعل، وراغب في الذب عن حوزتها سراً وجهراً، وخاطب من خدمتها ما يرجى أن يكون رضا الله في المقابلة عنه أغلى مهراً، وناهج جدد الرشد في المناضلة عنها بسيفه وقلمه، وفارجٍ للكرب الحادثة فيها بنطق فيه وسعي قدمه.
وقد منح أيام أمير المؤمنين من كونك الولي بمواصلة المقامات الغر فيها، والخلي من كل ما يباين صحة الموالاة وينافيها، والضمين لما عاد عليها باستقامة النظام، والضنين بما يوجد للغير الطريق إلى وصول الحتف إليها والاهتضام، والمتجرد في إمداد عزها بالإحصاف والإمرار، والمتفرد بإعداد أقسام المناضلة دونها في الإعلان والإسرار، والباذل وسعه فيما ثنى إليها أعنة السعد ولواها، والخاذل كل مستنجدٍ بها فيما يخالف محبتها وهواها ما أوفى على المألوف في أمثالها من قبل، وصار لك به على كل من سلفك من الأعضاء التقدم والفضل، فهي بآثارك الحميدة فيها، وإكبارك الجد في تشييد مبانيها، وكونك كافياً أمر المحاماة من ورائها، كافاً عنها ما يخشى من حدوث أسباب الفساد واعترائها منيعة الجانب مريعة الجناب، سريعةٌ فيها السعود إلى ما يلي نداءها بأحسن التلبية والجواب.
ثم إنه وإن كانت زلفك إلى حضرة أمير المؤمنين بادية الحجول والغرر، غير محتاجة إلى إقامة الدليل عليها بما اتضح من أمرها واشتهر، فإن فلاناً يعيد جلاءها دائماً في أبهى الملابس وأنضرها، ويجيد الجد في الدلالة على تقابل مخبرها في الجمال ومنظرها، ويكشف من صفاء السرائر فيها والبواطن، وما يطلع عليه منها في كل المحال والمواطن، ما يسهب في وصفه ويعجب سماع ذكره ويطرب.
وفي هذه النوبة عاد، وقد زاد، على المعهود من شكرك وجازه، وأبان عن صلته بالوعد في ضمان النجح منك نجازه، وأوجب على نفسه أن لا يقف عند حد فيما يؤدي إلى نشر محامدك في الأرض، وطي الجوانح لك على الإخلاص الصادق المحض.
ولما مثل بحضرة أمير المؤمنين على رسمه الذي وسم بالجمال جبينه، وابتسم ثغر التوفيق فيه عما أصبح النجح أليف سعيه وقرينه، وبحسب فوزه من شرف الحظوة برتبةٍ لم ينلها أحد الأقران له في الزمان، وفوته شأو أبناء جنسه يوم المضمار والرهان، كفاء ما يستوجبه بغلاء قيمته في الكمال، والغناء به في كل مقام أمن حد مضائه فيه الكلال، أشار بذكر مقاصدك التي حزت بها من غنائم الحمد الصفايا، وشاد مباني محامدك بفضل الإبانة عن السرائر والخفايا، وتابع الثناء على كل من أفعالك التي أمسى هلالك فيها مقمراًن ووضح فيها كونك بشروط الإخلاص محباً مضمراً، وشرح من توفرك على كل قربة غراء تغري الألسنة بحمدك، وتنبيء عن حسن مقصدك برفع عماد الحق وعمدك، ما قامت عليه الأدلة، واستقامت به على سنن الرشد الأهواء المضلة، وبين من أمضائك كل عزم في تهيئة القربات إلى حضرة أمير المؤمنين حالاً فحالاً، وإبطائك خطا الجد فيما يراد بزلفك البالغة أقصى الغايات لديه سابقاً واتصالاً، ما يضاهي المظنون في تلك العقيدة التي طالما ألفيت في نصرة الدولة القاهرة صافية المورد والمنهل، حاليةً من الحسن بكل حالٍ اتضح فيها ما ألهى عن غيرها من الوصف وأذهل، فقوبلت بما تستحقه من إحمادٍ أشيع وأذيع، واتبع فيه الواجب وأطيع، وتضاعف الاعتداد بأفعالك التي أعنت بالعون منها في الجمال والأبكار، وأعدت بها الأمور في الصلاح إلى ما يؤمن إيضاحه الجحد والإنكار. ومن أحق منك بكل فعالٍ تضيء مصابيح الخير فيه، وينتشر جميل الذكر من مطاويه وأنت للدولة الولي الأمين وبحفظ نظام كل أمرٍ يختص بها الكفيل الضمين؟ ومن أولى منك بكل حمدٍ يفد إليك إمداده أرسالاً، وتجد منه ضالةً نشدت مثلها آمال سواك فآبت بالخيبة عجالاً؟ فلك من الحقوق ما لا ينسى، وما يلزم أن يرعى في كل مصبح وممسى. فأحسن الله جزاءك عن كونك في دولته ذاباً عن الجحد حامياً.
فأما ما تحدد في معنى الأعمال على الوصف الذي قضى بزوال الخلف وانحسامه، واقتضى رأيك إجراء الأمر على ما استصوب من اتساقه وانتظامه، فقد وقفت عليه، وأجيز ما أشرت إليه. فأعواض الدنيا تهون وتسهل في ضمن ما يلحظ من اعتناقك أحكام مشايعة الدولة التي قمت بأعبائها في كل أوان، وغدت آثارك فيها باقية الذكر والأجر على تقضي الأزمان. فأنت المرغوب في الثناء ولايةً وإن شانت الأحوال، والمخلص الذي لا عوض عنه في كل مقام ومقال، فقد أحاط العلم بتفصيل ذلك وجملته، وتحقق أن الخيرة في كل ما تشير إلى سلوك طريقه وجدده، ولذلك أجيب فلان إلى الحضور والمستخدمون معه، وأذن في المقابلة بالقوانين القديمة والباقي والجرائد، والموافقة على ما رأيته في البوادي والعوائد، والتنزه عن كل ما شذ عن الحجة المؤكدة بتوفيقك وتوفر الموجود لهذه السنة فيه عليه، وحسم مواد استزادته في كل ما تمسك به وأشار إليه، والثقة من بعد مستحكمة بتوفرك على ما يرادف إليك إمداد الحمد، وتجديدك كل قربة تنضم إلى سوابقها المتجاوزة حد الإحصاء والعد.
فأما ما تضمنته إشارتك في حق الستر الرفيع، فهل الصلاح إلا من نتائج أقوالك؟ وهل مساعيك إلا موقوفة على الخير وأفعالك؟ وهل الموافقة إلا لك في جميع آرائك وأبحاثك، وبحكم ابتدائك لاستقامة النظام فيما قرب وبعد، والسكون إلى إسعافك في كل أمر يحدث ويتجدد، ويبعث على ما يعيذ رونق الحشمة من الوهن، ويهز طاعتك في كل أمر يحقق التقدير فيها والظن؟ فإذا تصفحت حقوق الوكلاء المجتباة وجدت موفرة على اقتناء الأجر، مصروفةً في وجوه البر التي هي أنفع الذخر في غد. وهل الأعواض إلا عند من يظن الدنيا بعينها قيمة تنافس؟ وهل مصيرها إلا إلى انقضاء ولو أسعفت بالرغائب والنقائس؟ والبواطن متى أعرب عنها أشمت ذاك كل مجانب للدولة من أهل النفاق. وأنت المعتمد لتدبير ما يصون حشمة الدولة عن البذلة والخلل، والمرجوع إليه في تحسين الأمر فيما وقع الاجتهاد فيه حتى تيسر قدره وتسهل. ولهذا تفصيلٌ قد أوعز إلى فلان باستقصاء شرحه، وإطلاعك على حقيقة الأمر وفصه. فكن بحيث الظن فيك، تجد زند جمالك بذلك أورى، وتجب لك به صنوف الشكر طوراً، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني: ما يكتب عن الخلفاء إلى وزراء الملوك:
وهي مما يؤتى في صدرها بحرف النداء غالباً. كما يكتب عن المسترشد إلى معز الدين الفضل وزير معز الدين سنجر بن ملكشاه.
مقامك يا معز الدين، أحسن الله حياطتك وكمل موهبته عندك في خدمة الدار العزيزة التي ما زلت لجهدك فيها باذلاً، وفي جلابيب المناصحة رافلاً، لا يقبضنك أن تواصل حالاً فحالاً بأنبائك، وتستديم ما خصصت به من شريف الآداب الموفية بك على أكفائك. وعرض بحضرة أمير المؤمنين ما ورد منك دالاً على طاعتك المعهودة، وموالاتك الرائقة المشهودة، واستمرارك على الجدد والمهيع فيما حاز المراضي الشريفة الإمامية لك، وحقق في الفوز بجميل الآراء أملك، وناطقاً بحال فلان المارق عن الدين، المجاهر بمعصية الله تعالى في مخالفة أمير المؤمنين، وما اقتضاه الرأي المعزي بحسن سفارتك، وسداد مقصدك في الطاعة وصفاء نيتك. وأحاط علماً بمضمونه الذي لا ريب أنه ثمرة مناصحتك، ونتيجة سعيك المضاهي نصيحة عقيدتك. ومن أولى منك بهذه الحال؟ وأنت الحول القلب، ذو الحنكة المجرب، الذي تفرد في الأنام بكماله، وقصر أكفاؤه عن درك شأوه في الخير ومثاله. وما زلت حديثاً وقديماً موسوماً، بهذه المزية مرقوقاً، وبغير شك أنك تراعي ما بدأت به، وتعضد مقالك في موارده بما تعمده في مصادره، وتحرس ما قدمته من الاحتياط بتحريك في أواخره، وتمضي العزيمة لإتمام ما شرعت فيه، كفاء ما يوجبه دينك ويقتضيه، جرياً على وتيرتك فيما قضى للأحوال بالانتظام والاتساق، وآذن لشمس الصلاح بالإضاءة والإشراق.
وبعد، فقد عرفت ما تكرر إليك في أمر هذه الطائفة الخبيثة، المكاشفة بمذهب الإلحاد، المبارزة بسوء الاعتقاد، بعثاً على جهادها، وكف ضررها عن الإسلام وفسادها، ورفع ستر المراقبة عنها، والانتقام لله ولرسوله منها. وما يقنع من همة معز الدولة والدين أمتع الله ببقائه ومن وافر عقلك ودينك، وصدق يقينك، إلا بإرهاف العزيمة في مكاشفتها، وخوض الغمار في محاربتها، والقصد لمضايقة من اعتصم منها بالقلاع، وقتل كل من يظفر به في سائر البقاع، حميةً وامتعاضاً للدين، وأنفاً مما استولى عليه بها من الضرر المبين. فكن من وراء الحب لمعز الدنيا والدين على تيقنك هذا المثال، والادكار بما تفوز به مع الامتثال له في المآل، وانهض في تنفيذ ما يأمرك به في هذا الباب نهضة من أتزر رضا الله وأراده، وبذل في ذلاح معاده اجتهاده، فإن الله سبحانه لا يرضى منكما للانتصار لدينه بالتقصير، وأمير المؤمنين أمركما بالجد فيه والتشمير. وقد شرفك بتحفة أمر بحملها إليك من بين يدي سدته، وأعرب بها عن مكانك من حضرته، إنافةً على الأمثال بقدرك، وإضفاءً لملابس فخرك، فاعرف بمكان النعمة في ذلك، واسلك في القيام بشكرها أوضح المسالك، وأدم المواصلة بمطالعتك، وقدم التوقع من إجابتك، تفز من المراضي الشريفة بالحظ الأسنى، ويجتمع لك منها الاسم والمعنى، إن شاء الله تعالى.

.الطرف الرابع في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس في الديار المصرية بعد مصير الخلافة إليها:

وهي على ثلاثة أساليب:
الأسلوب الأول: أن تفتتح الكتاب بلفظ من فلان إلى فلان:
والحكم فيها على ما كان الأمر عليه في خلافتهم ببغداد، إلا أنه زاد فيه لفظ ووليه بعد لفظ عبد الله في أول الكتاب فيقال في افتتاحه: من عبد الله ووليه أبي فلانٍ فلان الإمام الفلاني. ثم يقال: أما بعد حمد الله، ويؤتى على آخر الخطبة، ثم يتخلص منها ويختم بالأمر بامتثال ما أمر به. ويقال بعد ذلك: موفقاً إن شاء الله تعالى. والخطاب فيه بالكاف، وربما افتتح الكتاب بآية من القرآن الكريم مناسبةٍ للمعنى.
وهذه نسخة كتاب كتب به عن الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان ابن الحاكم بأمر الله أحمد إلى الملك المؤيد هزبر الدين داود ابن الملك المظفر صلاح الدين يوسف بن رسول في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون في سنة سبع وسبعمائة، حين منع صاحب اليمن الهدية التي جرت العادة بإرسالها إلى الأبواب الشريفة بالديار المصرية، مفتتحاً بآية من القرآن وهو: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
من عبد الله ووليه أبي الربيع سليمان:
أما بعد حمد الله مانح القلوب السليمة هداها، ومرشد العقول إلى أمر معادها ومبداها، وموفق من اختاره إلى محجة صواب لا يضل سالكها، ولا تظلم عند إخلاف الأمور العظام مسالكها، وملهم من اصطفاه لاقتفاء آثار السنن النبوية والعمل بموجبات القواعد الشرعية، والانتظام في سلك من طوقته الخلافة عقودها وأفاضت على سدته الجليلة برودها، وملكته أقاصي البلاد وأناطت بأحكامه السديدة أمور العباد، وسارت تحت خوافق أعلامه أعلام الملوك والأكاسرة، وشيدت بأحكامه مناجح الدنيا ومصالح الآخرة، وتبختر كل منبرٍ من ذكره في ثوبٍ من السيادة معلم، وتهللت من ألقابه الشريفة أسارير كل دينارٍ ودرهم.
يحمده أمير المؤمنين على أن جعل أمور الخلافة ببني العباس منوطة، وجعلها كلمةً باقيةً في عقبه إلى يوم القيامة محوطة، ويصلي على ابن عمه محمدٍ الذي أخمد الله بمبعثه ما ثار من الفتن، وأطفأ برسالته ما اضطرم من نار الإحن، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين حموا حمى الخلافة وذادوا عن مواردها، وعمدوا إلى تمهيد المعالم الدينية فأقاموا على قواعدها، صلاةً دائمة الغدو والرواح، متصلاً أولها بطرة الليل وآخرها بجبين الصباح.
هذا وإن الدين الذي فرض الله على الكافة الانضمام إلى شعبه، وأطلع فيه شموس هدايةٍ تشرق من مشرقة ولا تغرب في غربه، جعل الله حكمه بأمرنا منوطاً، وفي سلك أحكامنا مخروطاً، وقلدنا في أمر الخلافة المعظمة سيفاً طال نجاده، وكثر أعوانه وأنجاده، وفوض إلينا أمر الممالك الإسلامية وإلى حرمنا تجبى ثمراتها، ويرفع إلى ديواننا العزيز نفيها وإثباتها، يخلف الأسد إن مضى في غابه شبله، ويلفى في الخبر والخبر مثله.
ولما أفاض الله علينا حلة الخلافة، وجعل محلنا الشريف محل الرحمة والرافة، وأقعدنا على سدة خلافةٍ أشرقت بالخلائف من آبائنا، وابتهجت بالسادة الغطاريف من أسلافنا، وألبسنا خلعةً هي من سواد السؤدد مصبوغة، ومن سواد العيون وسويداوات القلوب مصوغة، وأمضينا على سدتنا الشريفة أمر الخاص والعام، وقلدنا كل إقليم من عملنا من يصلح سياستها على الدوام، واستكفينا بالكفاة من عمالنا على أعمالنا، واتخذنا مصر دار مقامنا وبها سدة مقامنا، لما كانت في هذا العصر قبة الإسلام، وفيئة الإمام وثانية دار السلام، تعين علينا أن نتصفح جرائد عمالنا، ونتأمل نظام أعمالنا، مكاناً فمكاناً، وزماناً فزماناً، فتصفحناها فوجدنا قطر اليمن خالياً من ولايتنا في هذا الزمن. عرفنا هذا الأمر من اتخذناه للممالك الإسلامية عيناً وقلباً، وصدراً ولباً، وفوضنا إليه أمر الممالك الإسلامية فقام فيها مقاماً أقعد الأضداد، وأحسن في ترتيب ممالكها نهاية الإصدار وغاية الإيراد، وهو السلطان الأجل، السيد الملك الناصر المبجل، لا زالت أسباب المصالح على يديه جارية، وسحابة الإحسان من أفق راحته سارية، فلم يعد جواباً لما ذكرناه، ولا عذراً عما أبديناه، إلا بتجهيز شرذمة من جحافله المشهورة، وتعيين أناسٍ من فوارسه المذكورة، يقتحمون الأهوال، ولا يعبأون بتغيرات الأحوال، يرون الموت مغنماً إن صادفوه، وشبا المرهف مكسباً إن صافحوه، لا يشربون سوى المدام مدامة، ولا يلبسون غير الترانك عمامة، ولا يعرفون طرباً إلا ما أصدره صليل الحسام من غنا، ولا ينزلون قفراً إلا ونبت ساعة نزولهم من قنا. ولما وثقنا منه بإنفاذهم راجعنا رأينا الشريف، فاقتضى أن يكاتب من بسط يده في ممالكها، واحتاط على جميع مسالكها، واتخذ أهلها خولاً، وأبدى في خلال ديارها من عدم سياسته خللاً. برز مرسومنا الشريف النبوي أن يكاتب من قعد على تخت مملكتها، وتصرف في جميع أمور دولتها، وطولع بأنه ولد السلطان الملك المظفر يوسف ابن عمر الذي له شبهة تمسك بأذيال المواقف المستعصية وهو مستصحب الحال على زعمه، أما ما علم الفرق بين الأحياء والأموات؟ أو ما تحقق الحال التي بين النفي والإثبات؟ أصدرناها إلى الرحاب التعزية، والمعالم اليمينة تشعر من تولى عنها فاستبد، وتولى كبره فلم يعرج على أحد، أن أمر اليمن ما برحت نوابنا تحكم فيه بالآية الصحيحة، والتفويضات التي هي غير جريحة، وما زالت تحمل إلى بيت المال المعمور وما تمشي به الجمال مشياً وئيداً، وتقذفه بطون الجواري إلى ظهور اليعملات وليداً، ويطالعنا بأمر مصالحه ومفاسده، وبحال دياره ومعاهده. ولك أسوة بوالدك فلان، هلا اقتفيت ما سنه من آثاره، ونقلت ما دونته أيدي الزمن من أخباره؟ واتصل بمواقفنا الشريفة أمور صدرت منك.
منها وهي العظمى التي ترتب عليها ما ترتب قطع الميرة عن البيت الحرام، وقد علمت أنه وادٍ غير ذي زرع، ولا يحل لأحدٍ أن يتطرق إليه بمنع.
ومنها انصبابك إلى تفريغ مال بيت المال في شراء لهو الحديث، ونقض العهود القديمة بما تبديه من حديث.
ومنها تعطيل أجياد المنابر من عقود اسمنا، وخلو تلك الأماكن من أمور عقدنا وحلنا. ولو أوضحنا لك ما اتصل بنا من أمرك لطال، ولاتسعت فيه دائرة المقال، رسمنا بها والسيف يود لو سبق القلم حده، والعلم المنصور يود لو فات العلم واهتز بتلك الروابي قده، والكتائب المنصورة تختار لو بدرت عنوان الكتاب، وأهل العزم والحزم يودون إليك إعمال الركاب، والجواري المنشآت قد تكونت من ليلٍ ونهار، وبزرت كصور الأفلية لكنها على وجه الماء كالأطيار، وما عمدنا إلى مكاتبتك إلا للإنذار، ولا احتجنا إلى مخاطبتك إلا للإعذار، فأقلع عما أنت بصدده من الخيلاء والإعجاب، وانتظم في سلك من استخلفناه فأخذ بيمينه ما أعطي من كتاب، وصن بالطاعة من زعمت أنهم مقيمون تحت لواء علمك، ومنتظمون في سلك أوامر كلمك، وداخلون تحت طاعة قلمك. فلسنا نشن الغارات على من نطق بالشهادتين لسانه وقلبه، وامتثل أوامر الله المطاعة عقله ولبه. ودان بما يجب من الديانة، وتقلد عقود الصلاح والتحف مطارف الأمانة. ولسنا ممنا يأمر بتجريد سيفٍ إلا على من علمنا أنه خرج عن طاعتنا، ورفض كتاب الله ونزع عن مبايعتنا. فأصدرنا مرسومنا هذا إليه نقص عليه من أنباء حلمنا ما أطال مدة دولته، وشيد قواعد صولته، ونستدعي منه رسولاً إلى مواقفنا الشريفة، ورحاب ممالكنا المنيفة، لينوب عنه في قبول الولاية مناب نفسه، وليجن بعد ذلك ثمار شفقاتنا إن غرس شجر طاعتها. ومن سعادة المرء أن يجني ثمار غرسه، بعد أن يصحبه من ذخائر الأموال ما كثر قيمةً وخف حملاً، وتعالى رتبه وحسن مثلاً، واشرط على نفسك في كل سنة قطيعةً ترفعها إلى بيت المال. وإياك ثم إياك! أن تكون على هذا الأمر ممن مال، ورتب جيشاً مقيماً تحت علم السلطان الأجل الملك الناصر للقاء العدو المخذول التتار، ألحق الله أولهم بالهلاك وآخرهم بالبوار. وقد علمت تفاصيل أحوالهم المشهورة، وتواريخ سيرهم المنكورة، فاحرص على أن يخصك من هذا المشرب السائغ أوفر نصيب، وأن تكون ممن جهز جيشاً في سبيل الله فرمى بسهم فله أجرٌ كان مصيباً أو غير مصيب، شاكراً بر مواقفنا المبرورة. وإن أبى حالك إلا أن استمريت على غيك، واستمريت مرعى بغيك، فقد منعناك التصرف في البلاد، والنظر في أحكام العباد، حتى تطأ خيلنا العتاق مشمخرات حصونك، وتعجل حينئذ ساعة منونك. وما علمناك غير ما علمه قلبك، ولا فهمناك غير ما حدسه لبك، ولا تكن كالصغير يزيده كثرة التحريك نوماً، ولا ممن غره الإمهال يوماً فيوماً. أعلمناك ذلك فاعمل بمقتضاه، موفقاً إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني: أن يفتتح الكتاب بخطبة إما مصدرةً بآية من القرآن الكريم أو دونه:
كما يكتب عن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان إلى السلطان الملك الناصر، أحمد ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهو بالكرك، يستدعي حضوره إلى قلعة الجبل بالقاهرة المحروسة لتقليد السلطنة الشريفة، بعد خلع أخيه الملك الأشرف كجك ابن الناصر محمد، وإمساك الأمير قوصون ومن معه من الأمراء.
وقد ذكر صاحب الدر الملتقط أنه كتبه في قطع البغدادي الكامل بين يدي الأمير قطلوبغا الفخري كافل السلطنة الشريفة، وهذه نسخته: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنةً ومن الناس من يجادل في الله بغير علمٍ ولا هدًى ولا كتابٍ منيرٍ}.
فالحمد لله الذي أسبغ نعمه الظاهرة والباطنة، وألف قلوب أوليائه المتفقة والمتباينة، وأخذ بنواصي أعدائه المراجعة والبائنة، وأعلى جد هذه الدولة القاهرة، وأطلع في أسنة العوالي نجومها الزاهرة، وحرك لها العزائم فملكت والأمور بحمد الله ساكنة والبلاد والمنة لله آمنة، والرعايا في مكانها قاطنة، والسيوف في أغمادها مثل النيران في قلوب حسادها كامنة، وأقام أهل الطاعة بالفرض واستوفى بهم القرض، وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض، وأعز أنصار المقام الشريف العالي وأعز نصره، وأعد لعدوه حصره، وأتى بدولته الغراء تسمو شموسها، وتثمر غروسها، وتظهر في حلل الصباح المشرق عروسها وتجيء منه بخير راع للرعية يسوسها، وبشره بالملك الدوام وسره بما اجتمع له من طاعة الأنام، وأقدمه على كرسي ملكه تظله الغمام، وأراه يوم أعدائه وكان لا يظن أن يرى في المنام، ولا يزال مؤيد الههم، مؤكد الذمم، مجدد البيعة على رقاب الأمم، ولا برحت أيامه المقبلة مقبلةً بالنعم، خضر الأكناف على رغم من كاد وغيظ من رغم، ولا فتئت عهود سلفه الشريفة تنشأ له كما كانت، ورعاياه تدين له بما دانت، وجنوده تفديه من النفوس بأعز ما ذخرت وما صانت، وسعادة سلطانه تكشف الغمم وتنشر الذمم وتعيد إلى أنوف أهل الأنفة الشمم، وتحفظ ما بقي لأوليائه من بياض الوجوه وسواد اللمم.
سطرها وأصدرها وقد حققت بعوائد الله الظنون، وصدقت الخواطر العيون، وأنجز الله وعده، وأتم سعدهن وجمع على مقامه الكريم قلوب أوليائه، وفرق فرق عدوه وأباته بدائه، ووطد لرقيه المنابر، ورجل لترقيه العساكر، وهيأ لمقاتل أعدائه في أيدي أوليائه السيوف البواتر. وأخذ قوصون وأمسك ونهب ماله واستهلك، وهدمت أبنيته وهدت أفنيته، وخربت دياره وقلعت آثاره، وأخليت خزائنه وأخرجت من بطون الأرض دفائنه، وما مانعت عنه تلك الربائب التي ظنها قساور ولا ناضلت تلك القسي التي طبعها أساور، ولا أغنى عنه ذلك المال الذي ذهب، ولا ذلك الجوهر الذي كان عرضاً لمن نهب. وأعيد إلى المهد ذلك الطفل الذي أكل الدنيا باسمه، وقهر أبناءها بحكمه، وموه به على الناس وأخلى له الغاب وما خرج من الكناس، وغالب به الغلب حتى وطيء الرقاب وداس الأعقاب، وخادع ودله الشيطان بغروره ودلس عليه عاقبة أموره، فاعتد بعتاده واعتز بقياده واغتر بأن الأرض له وما علم أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، فأمسك ومعه رؤوس أشياعه، وجصرت بالخوف نفوس أتباعه ومنهم الطنبغا. وقد أحاط العلم الشريف بكيفية وصوله وحقيقة الخبر وما قاساه في طريقه من العبر، وداس عليه حتى وصل من وخز الإبر. وكذلك من جاء معه، وخلف وراءه الحق وتبعه، بعد الهزيمة التي ألجأهم إليها خوف العساكر المنصورة التي قعدت لهم على الطريق وأخذت عليهم بمدارج أنفاسهم في فم المضيق، وعبئت لهم صفوف الرجال، وأعدت لهم حتوف الآجال، وحيرتهم في سعة الفجاج، وأرتهم بوارق الموت في سحب العجاج. ثم لم يصلوا إلا وهم أشلاءٌ ممزقة، وأعضاءٌ مفرقة قد فني تحتهم الظهر، وقني بيومهم الدهر، وساقتهم سعادة سلطان المقام العالي إلى شقاوتهم وهم رقود، وعبئت لهم الخيل والخلع إلا أنها ملابس الذل وهي القيود. فأخذوا جميعاً ومن كانوا على موالاته، وفارقوا الجماعة لمواتاته، وحملوا إلى الحبس النائي المكان، وأودعوا أحياءً في ملحده إلا أنهم كالأموات، وقد نالوا المقصد إلا أنهم ما أمنوا الفوات. ووكل بحفظهم إلى أن يشرف سرير الملك بقعود مقامه وعقود أيامه الحوالي، وسعود زمانه الذي لا يحتم بالنجوم إلا خدم الليالي.
وهذا النصر إنما تهيأت ولله الحمد أسبابه، وهذا الفتح إنما فتحت بمشيئة الله أبوابه، بمنة الله ونية المقام العالي لا بمنة أحد، ولا بمنة بأس من أقدر ولا يأس من حجر، وما قضى الله به من سعادة هذه الأيام، ومضى به القدر السابق وعلى الله التمام، وبمظافرة الجناب الكريم السيفي، قطلوبغا الفخري الساقي الناصري، أدام الله نصرته لهذه العصابة المؤيدة. وبمضاء عزائمه التي ماونت، وقضاء قواضبه التي ما انثنت، وبموازرة من التف عليه من أكابر الأمراء، وبما أجمعوا عليه من مظافرة الآراء، ونزولهم على النية لا يضرهم من خذلهم، ولا يهينهم من بذلهم، ولا يبالون بعساكر دمشق المقيمة على حلب ومن مال إليهم، وتمالأ معهم عليهم، ومن انضاف إليهم من جنود البلاد، وجيوش العناد، ولا لواهم ما كان يبعث إليهم ذلك الخائن من وعيده، ولا ولاهم ما كاد يخطف أبصارهم من تهديده، ولابالوا بما ألب عليهم من جند الشام من كل أوب، وصب عليهم سيوله من كل صوب، وخادعهم بالرسائل التي ما تزيدهم عليه إلا إباء، ولا تشككهم أن السيف أصدق منه إنباء، حتى ولى لا تنفعه الخدع، ولا تنصره البدع، فما أسعدته تلك الجموع التي جمعها، ولا أجابته تلك الجنود التي سار عليها إلى مكمن أجله، ولا وقت تلك السيوف التي لم يظهر له من بوارقها إلا حمرة الخجل، حتى أخذ مع طاغيته بل طاغوته بمصر ذلك الأخذ الوبيل، وقذف به إلى مهوى هلكة سيل ذلك السبيل، وقام من بالديار المصرية قيام رجلٍ واحد، وتظافروا على إزالة ذلك الكافر الجاحد، ولم يبق من الأمراء إلا من بذلك الجهد، وجمع قلوب الرعية والجند، وفعل في الخدمة الشريفة ما لم يكن منه بد، حتى حمد الأمر وخمد الجمر، وتواترت الكتب بما عمت به البشرى من إقامة البيعة باسمه الكريم، وأنه لم يبق إلا من أعطى اليمين وأعطى اليمين، وأتم الحلف إتماماً لا يقدر معه ثمين، وأقيمت له السكة والخطبة فرفع على المنابر اسمه وتهلل به وجوه النقود، وظهر على أسارير الوجود، وضربت البشائر، ونهبت المسرات السرائر، وتشوقت أولياء هذه الدولة القاهرة أدام الله سلطانها إلى حضور ملكها، وسفور الصباح لإذهاب ما أبقته عقابيل تلك الليلة من حلكها. والمقام العالي ما يزداد علماً ولا يزاد عزماً، وهو أدرى بما في التأخير، وبما في بعده من الضرر الكبير ومثله لا يعلم، ومنه يتعلم، فهو أعلم بما يجب من مسابقة قدومه للبشير، وما سيعن من معاجلته لامتطاء جواديه ظهر الخمال وبطن السرير، فالله الله! في تعجيل حفظ هذا السوام المشرد، وضم هذا الشمل المشتت ونظم هذا العقد المبدد، وجمع كلمة الإسلام التي طالما افترقت، وانتجاع عارض هذه النعمة التي أبرقت، وسرعة المسير فإن صبيحة اليوم المبارك الذي يعرف من أوله قد أشرقت، فما بقي ما به يقتدر، ولا سوى مقدمه السعيد ينتظر.
وقد كتبناها ويدنا ممدودة لمبايعته وقلوب الخلق كلها مستعدة لمتابعته، وكرسي الملك قد أزلف له مقعده ومؤمل الظفر قد أنجز له موعده، والدهر مطاوعه والزمان مسعده، وطوائف أوليائه ليوم لقائه ترصده والعهد له قد كتب ولواء الملك عليه قد نصب والمنبر باسمه عليه قد خطب، والدينار والدرهم هذا وهذا له ما قد ضرب ولم يبق إلا أن يقترب وترى العيون منه ما ترتقب، ويجلس على السرير ويزمع المبشر ويعزم على المسير، وتزين الأقاليم ويبين لتسيير شهابه ما كان يقرأ له في التقاويم، لا زال جيب ملكه على الأقطار مزروراً وذيل فخاره على السماء مجروراً وحبل وليه متصلاً وقلبه مسروراً، ومقدمه يحوز له من إرث آبائه نعماً جمة وملكاً كبيراً، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثالث: ما استقر عليه الحال في زماننا إلى خلافة الإمام المتوكل على الله خليفة العصر:
افتتاح المكاتبة بالسلام:
وهو أن تفتتح المكاتبة بالسلام، ويؤتى في ألقاب المكتوب إليه بما كتب من الألقاب عن السلطان على ما سيأتي ذكره في المكاتبات السلطانيات في الباب الثاني من هذه المقالة، إن شاء الله تعالى.
مثال ذلك أن تكون المكاتبة إلى نائب الشام مثلاً، فالذي يكتب إليه عن السلطان.